فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {وإِذ اعزلتموهم}.
قال ابن عباس: هذا قول يمليخا، وهو رئيس أصحاب الكهف، قال لهم: وإِذ اعتزلتموهم، أي: فارقتموهم، يريد: عبدة الأصنام، {وما يعبدون إِلا الله} فيه قولان.
أحدهما: واعتزلتم ما يعبدون، إِلا الله، فإن القوم كانوا يعبدون الله ويعبدون معه آلهة، فاعتزل الفتية عبادة الآلهة، ولم يعتزلوا عبادة الله، هذا قول عطاءٍ الخراساني، والفراء.
والثاني: وما يعبدون غير الله؛ قال قتادة: هي في مصحف عبد الله: {وما يعبدون من دون الله}، وهذا تفسيرها.
قوله تعالى: {فأووا إِلى الكهف} أي: اجعلوه مأواكم، {ينشرْ لكم ربكم من رحمته} أي: يبسطْ عليكم من رزقه، {ويهيِّءْ لكم من أمركم مرفقا} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي: {مِرفَقا} بكسر الميم، وفتح الفاء.
وقرأ نافع، وابن عامر: {مَرفِقا} بفتح الميم، وكسرالفاء.
قال الفراء: أهل الحجاز يقولون: {مَرفِقًا} بفتح الميم وكسر الفاء، في كل مرفق ارتفقت به، ويكسرون مِرفق الإِنسان، والعرب قد يكسرون الميم منهما جميعًا.
قال ابن الأنباري: معنى الآية: ويهيِّئ لكم بَدَلًا من أمركم الصَّعب مرفقًا، قال الشاعر:
فليتَ لنا من ماءِ زمزمَ شَربَةً ** مُبرّدةً باتت على طَهَيانِ

معناه: فلَيت لنا بدلًا من ماء زمزم.
قال ابن عباس: {ويهيِّئ لكم}: يسهِّلْ عليكم ما تخافون من الملِك وظلمه ويأتِكم باليُسر والرِّفق واللُّطف.
قوله تعالى: {وترى الشمس إِذا طلعت} المعنى: لو رأيتَها لرأيتَ ما وصفنا.
{تزاور} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: {تَزَّاوَرُ} بتشديد الزاي.
وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: {تَزَاور} خفيفة.
وقرأ ابن عامر: {تَزْوَرُّ} مثل: تَحْمَرُّ.
وقرأ أُبيّ بن كعب، وأبو مجلز، وأبو رجاء، والجحدري: {تَزْوَارُّ} باسكان الزاي، وبألف ممدودة بعد الواو من غير همزة، مشددة الراء.
وقرأ ابن مسعود، وأبو المتوكل، وابن السميفع: {تَزْوَئِرُّ} بهمزة قبل الراء، مثل: تَزْوَعِرُّ.
وقرأ أبو الجوزاء، وأبو السماك: {تَزَوَّرُ} بفتح التاء والزاي وتشديد الواو المفتوحة خفيفة الراء، مثل: تَكَوَّرُ، أي: تميل وتعدل.
قال الزجاج: أصل {تزاور}: تتزاور، فأدغمت التاء في الزاي، و{تقرضهم} أي: تعدل عنهم وتتركهم، وقال: ذو الرمة:
إِلى ظُعُنٍ يَقْرِضْنَ أجْوَازَ مُشْرِفٍ ** شِمالًا وعَنْ أيْمانِهِنَّ الفَوَارِسُ

يقرضن: يتركن.
وأصل القرض: القطع والتفرقة بين الأشياء، ومنه قولك: أقرِضني درهمًا، أي: اقطع لي من مالك درهمًا.
قال المفسرون: كان كهفهم بازاء بنات نعش في أرض الروم، فكانت الشمس تميل عنهم طالعةً وغاربةً لا تدخل عليهم فتؤذيهم بحرِّها وتغير ألوانهم.
ثم أخبر أنهم كانوا في متسع من الكهف ينالهم فيه برد الريح، ونسيم الهواء، فقال: {وهم في فجوة منه} قال أبو عبيدة: أي: في مُتَّسَع، والجمع: فَجَوات، وفِجاء بكسر الفاء.
وقال الزجاج: إِنما صَرْفُ الشمس عنهم آيةٌ من الآيات، ولم يرض قول من قال: كان كهفهم بازاء بنات نعش.
قوله تعالى: {ذلك من آيات الله} يشير إِلى ما صنعه بهم من اللطف في هدايتهم، وصرف أذى الشمس عنهم، والرعب الذي ألقى عليهم حتى لم يقدر الملك الظالم ولا غيره على أذاهم.
{من آيات الله} أي: من دلائله على قدرته ولطفه.
{من يهد اللهُ فهو المهتد} هذا بيان أنه هو الذي تولَّى هداية القوم، ولولا ذلك لم يهتدوا. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَإِذِ اعتزلتموهم}.
قيل: هو من قول الله لهم.
أي وإذا اعتزلتموهم فأووا إلى الكهف.
وقيل: هو من قول رئيسهم يمليخا؛ فيما ذكر ابن عطية.
وقال الغزنويّ: رئيسهم مكسلمينا، قال لهم ذلك؛ أي إذ اعتزلتموهم واعتزلتم ما يعبدون.
ثم استثنى وقال: {إلا الله} أي إنكم لم تتركوا عبادته؛ فهو استثناء منقطع.
قال ابن عطية: وهذا على تقدير إن الذين فرّ أهل الكهف منهم لا يعرفون الله، ولا علم لهم به، وإنما يعتقدون الأصنام في ألوهيتهم فقط.
وإن فرضنا أنهم يعرفون الله كما كانت العرب تفعل لكنهم يشركون أصنامهم معه في العبادة فالاستثناء متصل؛ لأن الاعتزال وقع في كل ما يعبد الكفار إلا في جهة الله.
وفي مصحف عبد الله بن مسعود {وما يعبدون من دون الله}.
قال قتادة هذا تفسيرها.
قلت: ويدل على هذا ما ذكره أبو نعيم الحافظ عن عطاء الخراسانيّ في قوله تعالى: {وإذا اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله} قال: كان فتية من قوم يعبدون الله ويعبدون معه آلهة فاعتزلت الفتية عبادة تلك الآلهة ولم تعتزل عبادة الله.
ابن عطية: فعلى ما قال قتادة تكون {إلاّ} بمنزلة غير، و{ما} من قوله: {وما يعبدون إلا الله} في موضع نصب، عطفا على الضمير في قوله: {اعتزلتموهم}.
ومضمَّن هذه الآية أن بعضهم قال لبعض: إذا فارقنا الكفار وانفردنا بالله تعالى فلنجعل الكهف مأوًى ونتكل على الله؛ فإنه سيبسط لنا رحمته، وينشرها علينا، ويهيّئ لنا من أمرنا مرفقًا.
وهذا كله دعاء بحسب الدنيا، وعلى ثقة كانوا من الله في أمر آخرتهم.
وقال أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنه: كان أصحاب الكهف صياقلة، واسم الكهف حيوم.
{مِّرْفَقًا} قرئ بكسر الميم وفتحها، وهو ما يرتفق به.
وكذلك مِرْفق الإنسان ومَرْفقه؛ ومنهم من يجعل المرفق بفتح الميم وكسر الفاء من الأمر، والمرفق من الإنسان، وقد قيل: المرفق بفتح الميم الموضع كالمسجد، وهما لغتان.
قوله تعالى: {وَتَرَى الشمس إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ اليمين} أي ترى أيّها المخاطب الشمس عند طلوعها تميل عن كهفهم.
والمعنى: إنك لو رأيتهم لرأيتهم كذا؛ لا أن المخاطب رآهم على التحقيق.
و{تزاور} تتنحّى وتميل؛ من الازورار.
والزور المَيَل.
والأزور في العين المائل النظر إلى ناحية، ويستعمل في غير العين؛ كما قال ابن أبي ربيعة:
وجنبي خيفةَ القوم أزْوَرُ

ومن اللفظة قول عنترة:
فازوَرّ من وَقْع القَنَا بلبَانه

وفي حديث غزوة مؤتة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في سرير عبد الله بن رواحة ازورارًا عن سرير جعفر وزيد بن حارثة.
وقرأ أهل الحرمين وأبو عمرو {تزاور} بإدغام التاء في الزاي، والأصل تتزاور، وقرأ عاصم وحمزة والكسائيّ {تزاور} مخففة الزاي.
وقرأ ابن عامر {تزورّ} مثل تحمر.
وحكى الفراء {تزوارّ} مثل تحمار؛ كلُّها بمعنًى واحد.
{وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ} قرأ الجمهور بالتاء على معنى تتركهم؛ قاله مجاهد. وقال قتادة: تدعهم.
النحاس: وهذا معروف في اللغة، حكى البصريون أنه يقال: قرضه يقرضه إذا تركه؛ والمعنى: أنهم كانوا لا تصيبهم شمس ألبتة كرامةً لهم؛ وهو قول ابن عباس.
يعني أن الشمس إذا طلعت مالت عن كهفهم ذات اليمين، أي يمين الكهف، وإذا غربت تمرّ بهم ذات الشمال، أي شمال الكهف، فلا تصيبهم في ابتداء النهار ولا في آخر النهار.
وكان كهفهم مستقبل بنات نعش في أرض الروم، فكانت الشمس تميل عنهم طالعةً وغاربة وجارية لا تبلغهم لتؤذيهم بحرّها، وتغيّر ألوانهم وتبلي ثيابهم.
وقد قيل: إنه كان لكهفهم حاجب من جهة الجنوب، وحاجب من جهة الدُّبور وهم في زاويته.
وذهب الزجاج إلى أن فعل الشمس كان آية من الله، دون أن يكون باب الكهف إلى جهة توجب ذلك.
وقرأت فرقة {يقرضهم} بالياء من القرض وهو القطع، أي يقطعهم الكهف بظلّه من ضوء الشمس.
وقيل: {وإذا غربت تقرضهم} أي يصيبهم يسير منها، مأخوذ من قُراضة الذهب والفضة، أي تعطيهم الشمس اليسير من شعاعها.
وقالوا: كان في مَسِّها لهم بالعشيّ إصلاح لأجسادهم.
وعلى الجملة فالآية في ذلك أن الله تعالى آواهم إلى كهف هذه صفته لا إلى كهف آخر يتأذّون فيه بانبساط الشمس عليهم في معظم النهار.
وعلى هذا فيمكن أن يكون صرف الشمس عنهم بإظلال غمام أو سبب آخر.
والمقصود بيان حفظهم عن تطرّق البلاء وتغيّر الأبدان والألوان إليهم، والتأذّي بحر أو برد.
{وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ} أي من الكهف.
والفجوة المتّسع، وجمعها فجوات وفجاء؛ مثل ركوة وركاء وركوات.
وقال الشاعر:
ونحن ملأنا كلّ واد وفجوة ** رجالًا وخيلًا غيرَ ميل ولا عُزْل

أي كانوا بحيث يصيبهم نسيم الهواء.
{ذلك مِنْ آيَاتِ الله} لطف بهم، وهذا يقوّي قول الزجاج.
وقال أهل التفسير: كانت أعينهم مفتوحة وهم نائمون؛ فكذلك كان الرائي يحسبهم أيقاظًا.
وقيل: تحسبهم أيقاظًا لكثرة تقلّبهم كالمستيقظ في مضجعه.
و{أيقاظًا} جمع يقظ ويقظان، وهو المنتبه.
{وَهُمْ رُقُودٌ} كقولهم: وهم قوم ركوع وسجود وقعود؛ فوصف الجمع بالمصدر. اهـ.

.قال أبو حيان:

و{إذ اعتزلتموهم} خطاب من بعضهم لبعض والاعتزال يشمل مفارقة أوطان قومهم ومعتقداتهم فهو اعتزال جسماني وقلبي، وما معطوف على المفعول في {اعتزلتموهم} أي واعتزلتم معبودهم و{إلاّ الله} استثناء متصل إن كان قومهم يعبدون الله مع آلهتهم لاندراج لفظ الجلالة في قوله: {وما يعبدون إلاّ الله}.
وذكر أبو نعيم الحافظ عن عطاء الخراساني أنهم كانوا يعبدون الله ويعبدون معه آلهة فاعتزلت الفتية عبادة تلك الآلهة ولم يعتزلوا عبادة الله.
وقال هذا أيضًا الفرّاء، ومنقطع إن كانوا لا يعرفون الله ولا يعبدونه لعدم اندراجه في معبوداتهم.
وفي مصحف عبد الله {وما يعبدون} من دوننا انتهى وما في مصحف عبد الله فيما ذكر هارون إنما أريد به تفسير المعنى.
وإن هؤلاء الفتية اعتزلوا قومهم {وما يعبدون} من دون الله وليس ذلك قرآنًا لمخالفتها لسواد المصحف، ولأن المستفيض عن عبد الله بل هو متواتر ما ثبت في السواد وهو {وما يعبدون إلاّ الله}.
وقيل: {وما يعبدون إلاّ الله} كلام معترض إخبار من الله تعالى عن الفتية أنهم لم يعبدوا غير الله تعالى، فعلى هذا {ما} فيه و{إلاّ} استثناء مفرغ له العامل.
{فأووا إلى الكهف} أي اجعلوه مأوى لكم تقيمون فيه وتأوون إليه.
وقوله: {ينشر} فيه ما كانوا عليه من التوكل حيث أووا إلى كهف، ورتبوا على مأواهم إليه نشر رحمة الله عليهم وتهيئة رفقه تعالى بهم لأن من أخرجه من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان لا يضيعه، والمعنى أنه تعالى سيبسط علينا رحمته ويهيء لنا ما نرتفق به في أمر عيشنا.
قال ابن عباس: {ويهيئ لكم} يسهل عليكم ما تخافون من الملك وظلمه، ويأتيكم باليسر والرفق واللطف.
وقال ابن الأنباري: المعنى {ويهيئ لكم} بدلًا من أمركم الصعب {مرفقًا}.
قال الشاعر:
فليت لنا من ماء زمزم شربة ** مبردة باتت على طهيان

أي بدلًا من ماء زمزم.
وقال الزمخشري: إما أن يقولوا ذلك ثقة بفضل الله وقوة في رجائهم لتوكلهم عليه ونصوع يقينهم، وإما أن يخبرهم به نبيّ في عصرهم، وإما أن يكون بعضهم نبيًا.
وقرأ أبو جعفر والأعرج وشيبة وحميد وابن سعدان ونافع وابن عامر وأبو بكر في رواية الأعشى والبرجمي والجعفي عنه، وأبو عمرو في رواية هارون بفتح الميم وكسر الفاء.